كم مرة ختمت؟

2012-08-14

سؤال كثيرًا ما يتردد في رمضان، ولا شك أنه مؤشر على حرص ديني لدى المجتمع، ويبدأ أئمة المساجد والدعاة في تحفيز الناس على كثرة تلاوة القرآن، ويضربون الأمثلة من سيرة السلف الصالح على حرصهم على ختم القرآن، ففلان قرأ القرآن ستين مرة وآخر ثلاثين إلى غير ذلك مما هو معروف، ويغفل كثير عن أمر هو أعظم من مجرد قراءة حرف القرآن، إنه العيش معه وإقامة حده.

   ورحم الله الحسن البصري حين قال: "والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفًا واحدًا وقد والله أسقطه كله ما ترى القرآن له في خلق ولا عمل" ويقول ابن عمر: "كان الفاضل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها، ولكنهم رزقوا العمل بالقرآن، وآخر هذه الأمة يرزقون القرآن ولا يرزقون العمل به". ولم يكن جبريل -عليه السلام- يدارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن إلا مرة واحدة في شهر رمضان، ودارسه في السنة التي قبض فيها القرآن مرتين، وما هذا إلا دليل على أهمية مدارسة القرآن لا مجرد قراءته، وعلى أن العبرة بالكيف لا بالكم.

     إن القراءة المجردة من التدبر قراءة لم يأمر بها الله، بل عاب على من فعلها حين  قال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وأخبر -سبحانه- أن بركة القرآن لا تنال إلا بتدبره {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} وهل يستوي التدبر مع تلك التلاوة السطحية التي ليس فيها أي إحساس بالمعنى، أو إدراك للمقصد، أو غوص فيما وراء المعنى القريب لاستنتاج ما هو مطلوب لأنفسنا ومجتمعاتنا من مقومات نفسية واجتماعية، نستعيد بها الدور المفقود في الشهادة على الإنسانية وقيادتها إلى الخير؟! بل نجد غياب بعض صفات عباد الرحمن التي وردت في القرآن الكريم، من أنهم قوم يقبلون على القراءة بحواسهم، فهم: يسمعون، ويبصرون، ومن ثم يعملون، ولا يليق بالمسلم أن يكون أصمًّا مع صحة سمعه وأعمى مع جودة نظره لأن هذا يتنافى مع صفات عباد الرحمن الذين أرادهم الله: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا}

    إن علينا أن نعيد قراءة القرآن بفهم وتدبر لاستلهام سنن الله في الأنفس والآفاق، والتعرف على مقومات الشهود الحضاري، وعلى الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه لاستئناف دورهم المفقود، وهكذا كان السلف، كانوا يقرؤون القرآن فيرتفعون إلى مستواه، أما نحن فنقرأ القرآن فنشده إلى مستوانا، وهذا ظلم للكتاب.

 لقد صار القرآن عند البعض تناغيم وترانيم بدل أن يكون الكتاب العظيم مصدر تصحيح الرؤى، وتقويم الأخلاق وتهذيب السلوك وبناء الحضارة، أصبح نصوصًا جامدة يقرؤها أهلها دون أن ينتفعوا بها، وهذا المزلق الخطير حذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر صفة الخوارج، فقال: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أمتي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بشيء وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بشيء وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بشيء يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" وفي رواية البخاري "ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم [حلوقهم]" ولذا فلا تستغرب أن ترى شخصًا يقرأ القرآن ثم هو يكذب أو يغش أو يأتي بأي نوع من أنواع الفسوق، ذلك أنه أقام حرف القرآن دون حده، وما لهذا أنزل الله كتابه!

     إن في رمضان فرصة عظيمة لمشروع كبير يقوم على فهم القرآن من أجل العيش به، والحياة معه، وجعله نبراس حياة ومصدر أخلاق، فهل سيتغير سؤالنا من: كم مرة ختمت؟ إلى: ما أثر القرآن في حياتك؟ وما الذي فهمت؟ ولماذا لم تتمثل هذه الآية في هذا الموقف؟

رزقنا الله تدبر كتابه والعمل به.

لاتوجد تعليقات حاليا!

button

إقرأ أيضا

اعدلوا بين ابنائكم

:  2022-03-08

:  55

أداب الحديث

:  2022-02-06

:  12

يوم الوشاح

:  2021-12-12

:  12

لماذا طلقن؟

:  2021-11-15

:  12

كل نفس ذائقة الموت

:  2021-10-20

:  12

عورة المسلم

:  2021-10-07

:  12