الظن القاتل

2021-08-12

تأمل في نفسك وفي الآخرين من حولك تجد أن كثيرًا من الأخلاق القرآنية والقيم العليا التي دعا إليها الإسلام نغفل عن تفعيلها في حياتنا ونقلها إلى واقعنا، خذ على سبيل المثال -مع كثرة الاجتماعات الأسرية واللقاءات العائلية في الإجازة- ما يحصل من الخصومات بين الأقارب فضلًا عن البُعداء وبين الأصدقاء فضلاً عن الأعداء بسبب (ما تقصده بكلامك أو تصرفك؟) حين يحصل من بعضهم تصرف عفوي أو يجري على لسانه كلمة لم يرم منها بشيء؛ لكن مرض الشك وسوء الظن لدى بعضهم يجعله يعيش أسير الموقف ويسترسل في أوهامه وخيالاته لينسج له ظنه السيء ووسوسة الشيطان نظرية المؤامرة له والكيد به فيبدأ عملية البحث والتحري -بزعمه-؛ ليجمع الأدلة والبراهين فيقع في التجسس والتحسس المنهي عنه، ولا يسلم لسانه من الغيبة.

  تأمل {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم * ولا تجسسوا لا يغتب بعضكم بعضاً} إن هذه الآية تعلم الناس كيف يصَفُّون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب مؤثر عجيب، حيث تبدأ بنداء مُحبَّبٌ للمؤمنين {يا أيها الذين آمنوا} ، ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن، فلا يتركوا أنفسهم نهبًا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك، وتعلل هذا الأمر {إن بعض الظن إثم} وما دام النهي منصبًا على أكثر الظن -والقاعدة أن بعض الظن إثم- فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيء أصلاً، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثمًا! بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيء فيقع في الإثم؛ ويدعه نقيًا بريئًا من الهواجس والشكوك، أبيضًا يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء؛ والبراءة التي لا يلوثها الريب والشك، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع، وما أروع الحياة في مجتمع بريءٍ من الظنون!

ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب؛ بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل، وسياجًا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النقي، فلا يحاكمون بريبة؛ ولا يصبح الظن أساسًا لمحاكمتهم بل لا يصلح أن يكون أساسًا للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول :  إذا ظننت فلا تحقق» ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء مصونة حقوقهم  وحرياتهم واعتبارهم حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم!

إن الأصل في المؤمن أن تُحمل أفعاله وأقواله على الخير، وإذا صدر منه قول أو فعل تأكد خطؤه فيه، فالأصل أن يحمل على حسن نيته، إلا إذا دل دليل واضح على خلاف ذلك، وبهذا الأصل يسد المسلمون المنافذ التي يلج منها الشيطان للإيقاع بينهم، ويغريهم بالخصام والشجار وسوء الظن والتهاجر والتقاطع والتدابر، لأن المسلم إذا اجتهد في حمل تصرفات أخيه المسلم على الخير سلم عليه قلبه، وبقي معه على الإخاء والمودة والائتلاف، وأمن كل واحد صاحبه ولم يتخوَّنه.

  وقد أنكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أشد الإنكار، على أسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله، ظناً منه أنه إنما قالها ليتَّقي بها القتل، مع قيام القرينة عند أسامة المقتضية إعلان الشهادة دفاعًا عن الذات، يقول أسامة: "بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته. قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال، فقال: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟. فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم". 

  وفي صحيح البخاري: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا إِخْوَانًا" وكم حطم سوء الظن الكاذب أسرًا ومجتمعات ودولاً، بسبب عدم التأدب بأدب الإسلام، والعمل بالأصل الذي هو حسن الظن.

  هذا كله إذا كان الظن لا دليل عليه، وظاهر المسلم المظنون به الخير والصلاح والبعد عن الريب، أما إذا قام على ذلك دليل يرجح وجود ما ظن الظان في صاحبه، فإن ذلك الظن حينئذ لا شيء فيه، بل هو مشروع وقد يجب، حذرًا من صاحبه.

ألا ما أجمل العالم الإسلامي الذي يصوره القرآن عالم نقيُّ المشاعر، مكفول الحرمات، مصون الغيبة والحضرة، لا يؤخذ فيه أحد بظنه، ولا تتبع فيه العورات، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس، فهل سنسعى لتحقيقه؟

لاتوجد تعليقات حاليا!

button

إقرأ أيضا

اعدلوا بين ابنائكم

:  2022-03-08

:  55

أداب الحديث

:  2022-02-06

:  12

يوم الوشاح

:  2021-12-12

:  12

لماذا طلقن؟

:  2021-11-15

:  12

كل نفس ذائقة الموت

:  2021-10-20

:  12

عورة المسلم

:  2021-10-07

:  12