لقد عاش مجتمعنا في الأيام المنصرمة استعدادًا محمومًا لاستقبال الاختبارات، وأعيد النظر في برامج الأسر ومحاضن التعليم للتكيف معها، ونشطت مراكز التدريب لاقتناص الفرص، وتنافست في الإعلان عن دورات تدريبية بعناوين مختلفة تحمل معنى واحدًا، وانقضت أيام الكر والفر كما يحلو لبعض الطلاب تسميتها، وجاءت أيام الربيع وإن وافقت قمة الحر.
ومع الموسم الجديد انقلبت موازين كثير من الأسر، فأصبح ليلهم نهار، ونهارهم ليل، وبدأ التخطيط لقطع الوقت بغض النظر عن العائد من الإجازة، وجاءت القرارات الأسرية بالسفر إلى الخارج في الغالب، ورغب بعضهم في السياحة الداخلية، ومن لم يستطع السفر فما على أفراد أسرته إلا تقسيم الوقت بين المنتزهات والأسواق والمطاعم، وما فاض من الوقت فأمام القنوات الفضائية، أو الشبكة العنكبوتية، وشذَّت أسر قليلة من عموم المجتمع لتتميز بثقافة أصيلة تحترم الوقت وساعات العمر، وتجمع في برنامجها الصيفي بين الإفادة والترفيه من غير إفراط ولا تفريط.
ولو تأمل الواحد منا عمره لتوصل إلى قناعة أن عمره الإنتاجي لا يتجاوز العشرين سنة، إذ لو كان عمر الفرد سبعين سنة كما جاء في الأثر :" أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين وأقلهم من يجوز ذلك" فإن ثلثها سيكون نومًا على افتراض كون ساعات نومه ثماني ساعات يوميًا، وخمس عشرة سنة فترة طفولة ومراهقة، ويتبقى حوالي خمس وعشرون سنة، قد يمضي منها على الأقل سنتان -تقريبًا- في تناول الوجبات وقضاء الحاجات الملحة على افتراض ذهاب ساعتين يوميًا في ذلك، فيبقى حوالي ثلث عمره ثلاث وعشرون، فما عساه أن يقدم فيها!
وأين ثقافة المسلم القائمة على إدراك أهمية الوقت؟ وساعات العمر رأس مال الإنسان؛ حيث لم يبق جزء من اليوم إلا وأقسم الرب جل جلاله به في كتابه ليلفت المسلم إلى أهمية استثمار الوقت والاعتناء به، وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي بسند حسن: " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه"
" وما أوقات الصلوات وشهر رمضان وأداء الزكاة والحج إلا تدريب للمسلم على تنظيم الوقت في يومه وسنته وعمره، والعاقل ابن وقته فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها، ومتى ضاع لم يستدركه أبدًا، وما أجمل ما قال ابن القيم: "إن إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك النقيصة، إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال، فإذا أضاعه لم يقف موضعه بل ينزل إلى درجات من النقص، فإن لم يكن في تقدم، فهو متأخر، ولابد؛ فالعبد سائر لا واقف فإما إلى فوق وإما إلى أسفل وإما إلى وراء وإما إلى أمام، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هي إلا مراحل تطوى أسرع طي إما إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر، وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخلفون في جهة المسير، وفي السرعة والبطء: {إنها لإحدى الكبر*نذيرًا للبشر*لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}
فما أجمل أن يخطط كل منا لإجازة شعارها الإجمام والفائدة، وأن يضع معايير جودة لإجازة مميزة، يقسم فيها الوقت ما بين صلة الرحم والسفر وتطوير الذات والمشاركة الإيجابية في خدمة المجتمع والنهوض به، وعلى مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام تقديم برامج توعوية لكيفية قضاء الإجازة والإفادة منها، وتعميم النماذج الناجحة للأفراد والمؤسسات التي ضربت أروع النماذج في استثمار الإجازة، ولتنتهِ الإجازة بشهادة إجادة في كافة العلوم والفنون، لا شهادة خبرة في فن حرق الوقت والنوم وضعف البصر، ووفق الله الجميع لإجازة سعيدة مليئة بالإفادة.
إضافة تعليق جديد