أنت حرة ومسؤولة أيضا

2012-11-08

يأتي اهتمام الإسلام بحرية الرأي نابعًا من تقديره لعقل الإنسان، فما دام الإسلام يحترم العقل فلا بد أن ينسحب هذا الاحترام للرأي الذي يصدر عن هذا العقل، ولذا تجد القرآن كثيرًا ما يخاطب العقول (قل انظروا) (أفلا تتدبرون) (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).

والفكر هو الذي يميز بين بني الإنسان والحيوان بل بين إنسان وآخر، وبين أمة وأخرى، وحين قال سقراط لجليسه: "تكلم حتى أراك" لم يكن يعني إلا ما نعنيه الآن، وهو أن الكلام والنطق هو الذي يعرفنا بالأشخاص. قل لي كيف تفكر؟ أقل لك من أنت، وإلى أي الفئات تنتمي، وفي أي العصور تعيش.

وقد استنكر الرحمن موقف المعطلين لعقولهم المقلدين لغيرهم الذين ألغوا مداركهم وعطلوا حواسهم ومثلهم القرآن بالبهائم تنقاد لصيحات الرعاة بلا وعي. قال تعالـــــــــى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف: 179)

وصان الإسلام عقول البشر وحماها من أن تفكر بطريقة خاطئة استنادًا على فهم خاطئ لحقائق معينة، ويقف رسول الله –صلى الله عليه وسلم– في الناس خطيباً: "الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا" أخرجه البخاري.

ويمثل حرية الرأي قوله –صلى الله عليه وسلم– للأعرابي: "إن لصاحب الحق مقالاً" أخرجه البخاري، وقوله: "لا يكن أحدكم إمعة يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم" أخرجه الترمذي ، وقوله – صلى الله عليه وسلم-: "أكرم الشهداء على الله رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر فقتله" أخرجه ابن ماجه وأحمد الطبراني وهو حديث صحيح.

وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا دلالة على حرية الرأي، بل إن المولى -جل وعلا- جعل خلقه يحاورونه فها هي الملائكة تحاوره لما قال لها: {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} (البقرة: 30)، وإبراهيم لما قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك...} (البقرة: 260)، وموسى لما قال: {رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}

· ضوابط حرية الرأي:

التزام الأدب عند إبداء الرأي، وتحري الحكمة والعقل، واجتناب الإثارة والأذى. قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل: 125). قال ابن القيم: "جعل الله مراتب الدعوة بحسب الخلق: فالمستجيب القابل الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريقة الحكمة، والقابل الذي عنده نوع من الغفلة والتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب والمعاند المجاهر يجادل بالتي هي أحسن".

حتى مع أهل الكتاب أمرنا بالحسنى {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}، وأمرنا بدفع السيئة بالحسنة {ادفع بالتي هي أحسن} (فصلت: 41)،ومثل ذلك قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم–: "ما ضل قوم بعد هدى إلا أتوا الجدل"، وقوله: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا" وقوله: "إن لصاحب الحق مقالاً" حتى لو خالفك صاحب فالقول اللين شعار الدين قال الله لموسى لما أرسله: {فقولا له قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى} (طه: 44).

ينأى الإسلام بأهله عن التورط بفضول الكلام وساقط القول ولغو الحديث في جميع أنواع الخطاب والمعاملات قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون} (المؤمنون: 1– 3)، {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}(الفرقان: 63)، وقوله – صلى الله عليه وسلم- : "قل خيراً أو أصمت" وقوله: "شرار أمتي الثرثارون".

ألا تؤدي هذه الحرية إلى الإسفاف وفحش القول أو الخوض في أعراض الناس وأسرارهم؟ {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} (النساء:148)، وقوله: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} (الإسراء: 53).

ألا يكون في الرأي نشر بدعة أو ضلالة، وقد سأل عمر رجلاً لم سرقت؟ قال: قضاء الله، فزاده عمر ضربًا تأديبًا له؛ لأن إبداء الرأي جاء اعتذارًا عن جريمة السرقة، وفي اعتذاره احتجاج بالقدر على المعاصي وهو قول باطل مقرر عند أهل العلم، وفتح لباب شر وما جاء عنه –صلى الله عليه وسلم-: "من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه".

حرية الرأي مرتبطة بالمقدرة الثقافية والعلمية، فلا يتكلم الشخص فيما يجهل أو مالا يحسن، ولذا حُصر الاجتهاد على أهله، ووجب على المسلم من غير أهل الاجتهاد أن يسأل {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (الأنبياء: 7).

حرية الرأي ليست حقاً للمرء فقط؛ بل هي واجبه عليه لمصلحة مجتمعه "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليسلط الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم"

· حول إبداء الرأي

-  شجع الناس على الاقتراب منك والأنس بك {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159).

-  أعط المتحدث فرصة للتعبير عن رأيه وما وضع أحد فمه في أذن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – إلا استمر مصغيًا له حتى يفرغ من حديثه وعاب عليه المنافقون ذلك فقالوا: (هو أذن) لما رأوا من إقبال الناس عليه وشكواهم له.

- ألا يتعرض المتكلم بالرأي للمقاطعة من جانب المستمع، فمقاطعة المتحدث وهو يدلي برأيه تفسد عليه حديثه، وكان – صلى الله عليه وسلم- لا يقطع حديث أحد.

 - أن يعي المستمع ما يقال من رأي ويفهمه، ولقد امتدح القرآن أذاناً تعي وتفهم فقال: {وتعيها أذن واعية} (الحاقة: 12).

-  أن يعي المستمع بجانب كلام صاحب الرأي تعبيراته وحركاته وإشاراته أثناء كلامه فهي تخبر كثيرًا، ولذا قال تعالى: {ولا تعد عيناك عنهم} وكان – صلى الله عليه وسلم- يعطي كل واحد من جلسائه نصيبه من النظر لينقل إحساسًا لهم بأنهم عنده سواء، وما الابتسامة إلا مفتاح قلب فلذا جعلها الشارِعُ صدقة.

-  إذا كان المتكلم مخطئًا لا بد من تصحيح الخطأ، وهذا أسامة بن زيد حب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لما جاء يشفع في حد من حدود الله قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطيبًا في الناس مصححًا لقوله، والشاب الذي استأذنه في الزنا، والأعرابي الذي سأله عن الساعة، فلم يجب عليه حتى أنهى حديثه.

· حرية الرأي بين الشرع والغرب:

· نماذج من حرية الرأي عند الغرب/

  • نشرت الصحف البريطانية عام 1970 قصة مدرسة شابة (25 عامًا) كانت تدرس لمجموعة من الأولاد المراهقين، وكانت تقوم بتدريبهم على الجنس عمليًا في الفصل وتخلع ثيابها قطعة قطعة أمامهم، فما كان من إدارة المدرسة إلا أن أبلغت وزارة التربية والتعليم. واتفقت الإدارة على إيقاف هذه المدرسة الشابة، وطلب منها أن تكف عن عرض دروسها المثيرة على الطلبة المراهقين، وفي اليوم التالي نشرت جريدة (الديلي ميرو) صورة هذه المدرسة عارية في صفحتها الأولى وقامت بحملة ضخمة ضد إدارة المدرسة ووزارة التربية والتعليم –الرجعية- التي تمنع هذه الشابة العبقرية من مواصلة دروسها المهمة لتعليم الشباب المراهق الجنس!
  • نشرت (النيوزويك) في عددها الصادر 17/7/1995م موضوعًا مطولاً يثير التقزز عن تعدد الأزواج المختلط في أمريكا، ويعني أن يكون للزوجين بجانب العلاقات الزوجية العادية علاقات شاذة مع آخرين بالتراضي بينهما.

 

· نماذج من حرية الرأي في الشريعة الإسلامية/

  • الحباب بن المنذر يوم بدر.
  • رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والأنصار يوم حنين.
  • عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين صعد ذات يوم المنبر ليحدث الناس، فبدأ خطبته ثم قال "اسمعوا رحمكم الله…" فقام سلمان قائلاً: والله لانسمع! فسأله عمر: ولِمَ؟ قال: ميزت نفسك علينا في الدنيا، أعطيت كلاً منا بردًا واحدًا وأخذت أنت بردين، فأعمل الخليفة بصره في صفوف الناس ثم قال: أين عبد الله بن عمر؟، فنهض عبد الله فسأله عمر على الملأ من صاحب البرد الثاني؟ فقال: أنا، ثم خاطب عمر الناس وسلمان: إنني كما تعلمون رجل طوال، ولقد جاءت بردتي قصيرة فأعطني عبد الله بردته فأطلت بها بردتي، فقال سلمان: الحمد لله، والآن قل نسمع ونطيع يا أمير المؤمنين.
  • لما خرج الفاروق - رضي الله عنه - ذات ليلة يطوف بالمدينة، مر بامرأة من نساء العرب مغلقة عليها بابها وهي تقول:

تطاول هذا الليل تسري كواكبهُ    وأرَّقنــي أن لا ضجيع ألاعبــــه

فوالله لولا الله لا شيء غيــــرهُ      لحــرّك من هذا السرير جوانبــه

مخافة ربي والحيــاء يصدنـــي         وأكـــرم بعلي أن تنال مراكبـــه

فقال لها عمر يرحمك الله، ودخل على ابنته حفصة فقال: كم تصبر امرأة عن الزوج؟ فقالت: الشهر والشهرين، فإذا بلغت الأربع فني الصبر، فأرسل إلى المجاهدين في ساحات الوغى ألا يتأخروا عن أربعة أشهر.

  • الصبية التي تكلمت بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حين نهى أن يخبر الرجل أو المرأة عما يدور بينهم، فقالت إنهم يتكلمون وإنهن ليتكلمن.
  • المرأة التي سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عن كيفية التطهر من المحيض، وغيرهن الكثير.

ويسوقنا هذا الحديث عن حرية الرأي في اختيار المرأة لزوجها فللمرأة -ثيبًا كانت أو بكرًا- كامل الحرية في اختيار من ترغب الزواج منه "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن" وقد أخرج البخاري أن خنساء بنت حذام أنكحها أبوها وهي كارهة فأتت إلى النبي فقالت: "إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع خسيسته فجعل الأمر إليها، إن شاءت أقرت صنع أبيها، وإن شاءت أبطلته، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء". رواه أبو داود

قال – صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم" أي أسرى، ومعلوم أن إخراج مالها بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الإسلام أعطى للمرأة الحق في مفارقة الزوج إذا لم تستطع الحياة معه، أو إذا كرهت خلقه كما في حديث ابن عباس قال: "جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أقبل الحديقة وطلقها تطليقة. (البخاري)

· ضوابط الحرية:

لقد قيدت الشريعة الإسلامية الحرية بقيدين.

1: قيد داخلي ينبعث من صميم النفس، يقوم على السيطرة عليها، والخضوع لحكم العقل، ويمنع الإنسان من إتباع الهواء والشهوات.

2: قيد خارجي عن النفس ينظمه قانون الشرع، والباعث عليه هو ضعف القيود النفسية الداخلية، وهو في الواقع حماية للحرية لا تقييد لها.

وما أجمل قول السخاوي في قيود الحرية "الإسلام أعطى الإنسان الحرية، وقيدها بالفضيلة حتى لا ينحرف، وبالعدل حتى لا يجور، وبالحق حتى لا ينزلق مع الهوى، وبالخير والإيثار حتى لا تستبد به الأنانية، وبالبعد عن الضرر حتى لا تستشري فيه غرائز البشر".

لاتوجد تعليقات حاليا!

button

إقرأ أيضا

اعدلوا بين ابنائكم

:  2022-03-08

:  55

أداب الحديث

:  2022-02-06

:  12

يوم الوشاح

:  2021-12-12

:  12

لماذا طلقن؟

:  2021-11-15

:  12

كل نفس ذائقة الموت

:  2021-10-20

:  12

عورة المسلم

:  2021-10-07

:  12